العلّامة الراحل السيِّد محمّد حسين فضل الله
◄يريد الله سبحانه من الإنسان أن يبدأ صباحه بالتسبيح، ويبدأ مساءه بالتسبيح (وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً) (الأحزاب/ 42). فالتسبيح هو استشعارك لعظمة الله، وبذلك تكون ساعات يومك حركة في الإحساس بعظمة الله، بحيث تفقد الإحساس بعظمة غيره، ولا يبقى في قلبك إلّا حبّ الله (وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبّاً للهِ) (البقرة/ 165)، على أساس ما يتّصف به سبحانه من صفات العظمة التي يمتلئ بها العقل، ويخشع لها القلب، وتنحني لها الإرادة.
وهكذا، فإنّ تمثُّل الإنسان لعظمة الله سبحانه، يمنعه من أن يعصي ربَّه، وينحرف عن دربه في أن يطيع غيره في معصيته، أو يسحق إرادته الشخصية تحت إرادة غيره بتمرّده على إرادة الله.
فمسألة الإحساس بعظمة الله لها دور حركي وعملي في حياتنا، فهي ليست مجرّد حالة نفسية أو قلبية نتحسّسها، بل هي حركة ننضبط من خلالها ونتوازن (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللهَ ذِكْراً كَثِيراً * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً) (الأحزاب/ 41-42)، اذكروه تعالى وأنتم في أعمالكم وأشغالكم، اذكروه وأنتم في لذّاتكم، اذكروه دائماً حتى يشرق نوره سبحانه في عقولكم وقلوبكم وحياتكم، لتسيروا على أساس النور الذي يجريه من خلال ذكره في حياتكم، وهكذا في التسبيح (هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً) (الأحزاب/ 43)، فإذا كنت المؤمن الذي يذكر الله ويسبِّحه، فإنّ الله يصلّي عليك، تماماً كما يصلّي على رسوله، فالله يصلّي على رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم)، لأنّه بلّغ الرسالة وأخلص في تبليغها، ولأنّه عبدُه الذي عبدَه وأطاعه، كما لم يعبده ويُطعه أحد.
ولأنّه جاهد في سبيل الله، كما لم يجاهد في سبيله أحد، فإذا كنت المؤمن الذي يذكر الله فيطيعه، ويسبّح الله فيخضع له، فإنّ الله يصلّي عليك، وصلاة الله عليك، هي غفرانه لك ورضوانه عليك وارتفاع درجتك عنده في الدُّنيا والآخرة. فالله، هو الذي يصلّي عليك أيّها المؤمن إذا سرت في خطّ الإيمان، وملائكته يصلّون عليك أيضاً (هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ). ما هو هدف هذه الصلاة ومهمّتها؟ إنّ الله تعالى إذا أنعم بصلاته عليك، وبمغفرته ورضوانه ورحمته ولطفه، فإنّه يلقي في عقلك وقلبك وحياتك نوراً، فتخرج من الظلمات إلى النور.
لهذا، أن تكون مؤمناً وتبقى في الظلمات، ذلك معناه أنّ هناك خللاً وضعفاً في إيمانك، فبمقدار ما تكون مؤمناً، تكون مشرق العقل والقلب والروح بالله. فالله سبحانه وتعالى أراد للمؤمنين أن يتحرَّكوا في خطِّ الإيمان من أجل أن يعيشوا في نورٍ من إيمانهم، نور يشرق في الدُّنيا فيدلُّهم على الطريق الواضح، ونور يشرق في الآخرة فيهديهم إلى طريق الجنّة.
وفي آيةٍ أُخرى، يحدّثنا القرآن أنّ الله يصلّي على جماعة من الناس لميزة في أنفُسهم لا ميزة مثلها (وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ) (البقرة/ 155) الصابرين على نقاط ضعفهم وعلى شهواتهم، والصابرين على ما يُساء إليهم، وعلى الضغوط التي توجّه لهم، والصابرين في البأساء والضرّاء، والصابرين على طاعة الله وعن معصيته، والصابرين على البلاء والمصائب (الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لله وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ * أُولَـئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ) (البقرة/ 156-157). كلّما كنت صابراً أكثر، صلّى الله عليك أكثر (وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً) (الأحزاب/ 43). هناك صلوات ورحمة، وهنا أيضاً يصلّي على المؤمنين ويرحمهم في كلِّ أُمورهم، في الدُّنيا وفي الآخرة.
لذلك، نحن كمؤمنين، إذا أحسَنّا الإيمان، فإنّنا لا نخاف من القبر، ولا نسقط أمام خوف المحشر، لأنّنا نوقن برحمة الله، فنحن في الحياة، ورغم ما يصادفنا من عقبات ومشاكل، نشعر بأنّنا نتقلَّب في رحمة الله، لأنّ رحمته سبقت غضبَه، وليست رحمة الله في الدُّنيا وحسب، بل في القبر والمحشر والحساب.
وبهذا تنفتح كلُّ حياتنا لرحمته، وتخشع كلّ قلوبنا للخوف من نقمته، لأنّنا يجب أن تعيش التوازن في هذه المسألة.
وهؤلاء الذين يصلّي الله عليهم ويرحمهم (تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً) (الأحزاب/ 44) ففي لقاء العبد مع سيِّده، يعطيهم السلام تحيّةً منه في الآخرة (سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ) (الرعد/ 24). فالسلام من الله، والسعادة والنِّعمة والرضوان من الله (تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً) الأجر الكريم الذي ينطلق من خلال طبيعته من كرم الله الذي لا حدَّ له في كلِّ رضوانه ورحمته.►
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق